فصل: ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر حال منصور بن جمهور

وفي هذه السنة وجه السفاح موسى بن كعب إلى السند لقتال منصور بن جمهور فسار واستخلف مكانه على شرط السفاح المسيب بن زهير وقدم موسى السند قلقي منصورًا في اثني عشر ألفًا فانهزم منصور ومن معه ومضى فمات عطشًا في الرمال وقد قيل أصابه بطنه فمات‏.‏

وسمع خليفته على السند بهزيمته فرحل بعيال منصور وثقله فدخل بهم بلاد الخزر‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها توفي محمد بن يزيد بن عبد الله وهو على اليمن فاستعمل السفاح مكانه علي بن الربيع وفيها تحول السفاح من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة‏.‏

وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى وهو على الكوفة‏.‏

وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عيد الله وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة وعمان سليمان بن علي وعلى فلسطين صالح ابن علي وعلى مصر أبو عون وعلى الموصل إسماعيل بن علي وعلى أمينية يزيد بن أسيد وعلى أذربيجان محمد بن صول وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور‏.‏

وكان عامله على أذربيجان وأرمينية من ذكرنا وعلى الشام عبد الله بن علي‏.‏

وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن سعد بن أبي وقاص‏.‏

وسعد بن عمر ابن سليم الزرقي‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة

  ذكر خروج زياد بن صالح

في هذه السنة خرج زياد بن صالح وراء النهر فسار أبو مسلم من مرو مستعدًا للقائه وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى ترمذ مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى حصن والسفن فيأخذها ففعل ذلك نصر وأقام بها فخرج عليه ناس من الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق فقتلوا نصرًا‏.‏

فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبع قتله نصر فتبعهم فقتلهم‏.‏

ومضى أبو مسلم مسرعًا حتى انتهى إلى آمل ومعه سباع بن النعمان الأزدي وهو الذي كان قد أرسله السفاح إلى زياد بن صالح وأمره إن رأى فرصة أن يثبت على أبي مسلم فيقتله‏.‏فأخبر أبو مسلم بذلك فحبس سباعًا ببآمل وعبر أبو سملم إلى بخارى فلما نزلها أتاه عدة من قواد زياد قد خلعوا زيادًا فأخبروا أبا مسلم أن سباع بان النعمان هو الذي أفسد زيادًا فكتب إلى عامله بآمل أن يقتله ولما أسلم زيادًا قواده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان هناك فقتله وحمل رأسه إلى أبي مسلم‏.‏

وتأخر أو داود عن أبي مسلم لحال أهل الطالقان فكتب إليه أبو مسلم يخبره بقتل زياد فأتى كش وأرسل عيسى بن ماهان إلى بسام وبعث جندًا إلى ساعر فطلبوا الصلح فأجيبوا إلى ذلك‏.‏

وأما بسام فلم يصل عيسى إلى شيء منه وكتب عيسى إلى كامل بن مظفر صاحب أبي مسلم يعتب أبا داودوينسبه إلى العصبية فبعث أبو مسلم بالكتب إلى أب داود وكتب إليه‏:‏ إن هذه كتب العلج الذي صيرته عدل نفسك فشأنك به‏.‏

فكتب أبو داود إلى عيسى يستدعيه فلما حضر عنده حبسه وضربه ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو‏.‏

  ذكر غزو جزيرة صقلية

وفي هذه السنة غزا عبد الله بن حبيب جزيرة صقلية وغنم بها وسبى وظفر بها ما لم يظفره أحد قبله بعد ان غزا تلمسان واشتغل ولاة إفريقية بالفتنة مع البربر فأمن الصقلية وعمرها الروم من جميع الجهات وعمروا فيها الحصون والمعاقل وصاروا يخرجون كل عام مراكب تطوف بالجزيرة وتذب عنها وربما طارقوا تجارًا من المسلمين فيأخذونهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

حج بالناس هذه السنة سليمان بن علي وهو على البصرة وأعمالها وكان العمال من تقدم ذكرهم‏.‏

وفيها مات أبو خازم الأعرج وقيل‏:‏ سنة أربعين وقيل سنة أربع وأربعين‏.‏

وفيها مات عطاء بن عبد الله مولى المطلب وقيل‏:‏ مولى المهلب وقيل‏:‏ هو عطاء بن ميسرة ويكنى أبا عثمان الخراساني وقيل سنة أربع وثلاثين‏.‏

وفيها مات يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بتن عباس بفارس وكان أميرًا عليها وكان قبل ذلك أميرًا على الموصل‏.‏

وفيها توفي ثور بن زيد الدئلي وكان ثقة‏.‏

وزياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان من البطال‏.‏

عياش بالياء المثناة من تحت وبالشين المعجمة‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة

  ذكر حج أبي جعفر وأبي مسلم

وفي هذه السنة كتب أبو مسلم إلى السفاح يسأذنه في القدوم عليه والحج وكان مذ ملك خراسان لم يفارقها إلى هذه السنة‏.‏

فكتب إليه السفاح يأمره بالقدوم عليه في خمسمائة من الجند فكتب أبو مسلم إليه‏:‏ إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي‏.‏

فكتب إليه‏:‏ أن أقبل في ألف فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك وطريق مكة لا يتحمل العسكر‏.‏

فسار في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري وجمع أيضًا أموال الجبل وقدم في ألف فأمر السفاح القواد وسائر الناس أن يتلقوه فدخل أبو سملم على السفاح فأكرمه وأعظمه ثم استأذن السفاح في الحج فاذن له وقال‏:‏ لولا أن لأبا جعفر يعني أخاه المنصور يريد الحج لا ستعملتك على الموسم وأنزله قريبًا منه‏.‏

وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدًا لأن السفاح كان بعث أبا جعفر إلى خراسان بعدما صفت الأمور له ومعه عهد أبي مسلم بخراسان وبالبيعة للسفاح وأبي جعفر المنصور من بعده فبايع لهما أبو مسلم وأهل خراسان وكان أبو مسلم قد استخف بأبي جعفر فلما رجع أخبر السفاح ما كان من أمر أبي مسلم فلما قدم أبو سملم هذه المرة قال أبو جعفر للسفاح‏:‏ أطعني وأتقل أبا مسلم فوالله إن في رأسه لغدرة‏.‏

فقال‏:‏ قد عرفت بلاءه وما كان منه‏.‏

فقال أبو جعفر‏:‏ إنما كان بدولتنا والله لو بعثت سنورًا لقام مقامه وبلغ ما بلغ‏.‏

فقال‏:‏ كيف نقتله قال‏:‏ إذا دخل عليك وحادثته ضربته أنا من خلفه ضربة قتلته بها‏.‏

قال‏:‏ فكيف بأصحابه قال‏:‏ أبو جعفر‏:‏ لو قتل لتفرقوا وذلوا‏.‏

فأمره بقتله وخرج أبو جعفر‏.‏

ثم ندم السفاح على ذلك فأمر أبا جعفر بالكف عنه‏.‏

وكان أبو جعفر قبل ذلك بحران وسار منها إلى الأنبار وبها السفاح واستخلف على حران مقاتل بن حكيم العكي‏.‏

وحج أبو جعف وأبو مسلم وكان أبو جعفر على الموسم‏.‏

  ذكر موت السفاح

في هذه السنة مات السفاح بالأنبار لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة وقيل‏:‏ لاثنتي عشرة مضت منه بالجدري وكان له يوم مات ثلاث وثلاثون سنة وقيل‏:‏ ست وثلاثون وقيل‏:‏ ثمان وعشرون سنة‏.‏

وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفي أربع سنين‏.‏

ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثماينة أشهر وقيل‏:‏ وتسعة أشهر منها ثمانية أشهر يقاتل مروان وكان جعدًا طويلًا أبيض أقنى الأنف حسن الوجه واللحية‏.‏

وأمه ريطة بنت عبد الله بن عبد المدان الحارثي وكان وزيره أبا الجهم بن عطية‏.‏

وصلى عليه عمه عيسى بن علي ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره‏.‏

وخلف تسع جباب وأربعة أقمصة فيهما وشمس في الناس ولا يوجد وهما‏:‏ يا آل مروان إن الله مهلككم ومبدل بكم خوفًا وتشريدا لا عمر الله من إنشائكم أحدًا وبثكم في بلاد الخوف تطريدا قال‏:‏ فعلت ذلك فدخلت قلوبهم مخافة‏.‏ قال جعفر بن يحيى‏:‏ نظر السفاح يومًا في المرآة وكان أجمل الناس وجهًا فقال‏:‏ أللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك‏:‏ أنا الملك الشاب ولكني أقول‏:‏ اللهم عمرني طويلًا في طاعتك ممتعًا بالعافية‏.‏

فما استتم كلامه حتى سمع غلامًا يقول لغلام آخر‏:‏ الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام‏.‏

فتطير من كلامه وقال‏:‏ حسببي الله ولا قوة إلا بالله عليك توكلت وبك أستعين‏.‏

فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى واتصل مرضه فمات بعد شهرين وخمسة أيام‏.‏

  ذكر خلافة المنصور

وفي هذه السنة عقد السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد بالخلافة من بعده وجعله ولي عهد المسلمين ومن بعد أبي جعفر ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي وجعل العهد في ثوب وختمة بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى‏.‏

فلما توفي السفاح كان أبو جعفر بمكة فأخذ البيعة لأبي جعفر عيسى ابن موسى وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له فلقيه الرسول بمنزل صفية فقال‏:‏ صفت لنا إن شاء الله‏.‏

وكتب إلى أبي مسلم يستدعيه وكان أبو جعفر قد تقدم فأقبل أبو مسلم إلليه‏.‏

فلما جلس وألقى إليه كتابه قرأه وبكى واسترجع ونظر إلى أبي جعفر وقد جزع جزعًا شديدًا فقال‏:‏ ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة قال‏:‏ أتخوف شر عمي عبد الله بن علي وشغبه علي‏.‏

قال‏:‏ لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله وإنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان وهم لا يعصونني‏.‏

فسري عنه‏.‏

وبايع له أبو مسلم والناس وأقبلا حتى قدما الكوفة‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا مسلم هو الذي كان تقدم على أبي جعفر فعرف الخبر قبله فكب إليه‏:‏ عافاك الله ومتع بك إنه أتاني أمر أقطعني وبلغ مني مبلغًا لم يبلغه مني شيء قط وفاة أمير المؤمنين فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك وإنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيمًا لحقك وأصفى نصيحة لك وحرصًا على ما يسرك مني‏.‏

ثم مكث يومين وكتب إلى أبي جعفر ببيعنه وإنما أراد ترهيب أبي جعفر‏.‏

قال‏:‏ ورد أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة وكان عاملًا عليها وعلى المدينة للسفاح وقيل‏:‏ كان قد عزله قبل موته عن مكة وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس‏.‏

ولما بلغ عيسى بن موسى الناس لأبي جعفر أرسل إلى عبد الله بن علي بالشام يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور ويأمره بأخذ البيعة للمنصور وكان قد قدم قبل ذلك على السفاح فجعله على الصائفة وسير معه أهل الشام وخراسان فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرك فأتاه موت السفاح فعاد بمن معه من الجيوش وقد بايع لنفسه‏.‏

وفي هذه السنة خرج في الأندلس الحباب بن رواحة بن عبد الله الزهري ودعا إلى نفسه واجتمع إليه جمع من اليمانية فسار إلى الصميل وهو أمير قرطبة فحصره بها وضيق عليه فاستمد الصميل يوسف الفهري أمير الأندلس فلم يفعل لتالي الغلاء والجوع على الأندلس ولأن يوسف قد كره الصميل واختار هلاكه ليستريح منه‏.‏

وثار بها أيضًا عامر العبدري وجمع جمعًا واجتمع مع الحباب على الصميل وقاما بدعوة بني العباس‏.‏فلما اشتد الحصار على الصميل كتب إلى قومه يستمدهم فسارعوا إلى نصرته واجتمعوا وساروا إليه فلما سمع الحباب بقربهم سار الصميل عن سرقسطة وفارقها فعاد الحباب إليها وملكها واستعمل يوسف الفهري الصميل على طيلطلة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

كان على الكوفة عيسى بن موسى وعلى الشام عبد الله بن علي وعلى مصر صالح بن علي وعلى البصرة سليمان بن علي وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد‏.‏

وفيها مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو ربيعة الرأي وقيل‏:‏ مات سنة خمس وثلاثين ومائة وقيل‏:‏ سنة اثنتين وأربعين ومائة‏.‏

وفيها مات عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الفرسي وإنما قيل له الفرسي بالفاء نسبة إلى فرس له‏.‏

وعطاء بن السائب أبو زيد الثقفي‏.‏

وعروة بن وريم‏.‏

وفي هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين من مكة فدخل الكوفة فصلى بأهلها الجمعة وخطبهم وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع إليه أطرافه وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم عليه أبو جعفر فسلم الأمر إليه‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

  ذكر خروج عبد الله بن علي وهزيمته

قد ذكرنا مسير عبد الله بن علي إلى الصائفة في الجنود وموت السفاح وإرسال عيسى بن موسى إلى عمه عبد الله بن علي يخبره بموته ويأمره بالبيعة لأبي جعفر المنصور وكان السفاح قد أمر بذلك قبل وفاته‏.‏

فلما قدم الرسول على عبد الله بذلك لحقه بدلوك وهي بأفواه الدروب فأمر مناديًا فنادى‏:‏

الصلاة جامعة‏!‏ فاجتمعوا عليه فقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعا الناس إلى نفسه وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه فأرادهم على المسي إليه فقال‏:‏ من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي فلم ينتدب له غيري وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت وشهد له أبو غانم لطائي وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد فبايعوه وفيهم حميد بن قحطبة وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة إلا أن حميدًا فارقه على ما نذكره‏.‏

ثم سار عبد الله حتى نزل حران وبها مقاتل العكي قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة فتحصن منه مقاتل فحصره أربعين يومًا‏.‏

وكان أبو مسلم قد عاد من الحج مع المنصو كما ذكرناه فقال للمنصور‏:‏ إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك وإن شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن علي‏.‏

فأمره بالمسير لحرب عبد الله فسار أبو مسلم في الجنود نحو عبد الله فلم يتخلف عنه أحد وكان قد لحقه حميد بن قحطبة فسار معه وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي‏.‏

فلما بلغ عبد الله وهو يحاصر حران إقبال أبي مسلم خشي أن يهجم عليه عطاء العتكل أمانًا فنزل إليه فيمن معه وأقام معه أيايمًا ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي بالقرقة ومعه ابناه وكتب معه كتابًا‏.‏

فلما قدموا على عثمان دفع العتكي الكتاب إليه فقتل العتكي واحتبس ابنيه فلما هزم عبد الله قتلهما‏.‏

وكان عبد الله بن علي قد خشي أن لا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحوًا من يبعة عشر ألفًا واستعمل حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه كتابًا إلى زفر بن عاصم عاملها يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه فسار حميد والكتاب معه فلما كان ببعض الطريق قال‏:‏ إن ذهابي بكتاب لا أعلم ما فيه لغرر‏.‏

فقرأه فلما رأى ما فيه أعلم خاصته ما في هذا الكتاب وقال‏:‏ من أراد المسير معي منكم فليسر‏.‏

فاتبعه ناس كثير منهم وسار على الرصافة إلى العراق‏.‏

فأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علي ليمكر به فلما أتاه قال له‏:‏ إني سمعت أبا العباس يقول الخليفة بعدي عمر عبد الله‏.‏

فقال له‏:‏ كذبت لإنما وضعك أبزو جعفر‏.‏

فضرب عنقه‏.‏

ومحمد بن صول هو جد إبرايهمبن العباس الكاتب الصولي‏.‏

ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم فيمن معه وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة وكان خليفته بأرمينية يأمره أن يوافي أبا مسلم فقدم على أبي مسلم بالموصل وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية نصيبين فأخذ طريق الشام ولم يعرض لعبد الله وكتب إليه‏:‏ إني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام فأنا أريدها‏.‏

فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله‏:‏ كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا ولكن نخرج إلى بلادنا فمنعه ونقاتله‏.‏

فقال لهم عبد الله‏:‏ إنه والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم وإن أقمتم ليأتينكم‏.‏

فأبوا إلا المير إلى الشام وأبو مسلم قريب منهم فارتحل عبد الله نحو الشام وتحول أبو مسلم فنزل في معسكر عبد الله بن علي في موضعه وعور ما حوله من المياه وألقى فيها الجيف‏.‏

وبلغ عبد الله ذلك فقال لأصحابه‏:‏ ألم أقل لكم ورجع فنزل في موضع سعكر أبي مسلم الذي كان به فاقتتلوا خمسة أشهر وأهل الشام أكثر فرسانًا وأكمل عدة وعلى ميمنة عبد الله بكار بن سلم العقيلي وعلى ميسرته حبيب ابن سويد الأسدي وعلى الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة وعلى ميسرته خازم بن خيزمة فاقتتلوا شهرًا‏.‏

ثم إن أصحاب عبد الله حملوا على ععسكر أبي مسمل فأزالوهم عن مواضعهم ورجعوا ثم حمل عليهم عبد الصمد بن علي في خيل مجردة فقتل منهم ثمانية عشر رجلًا ورجع في أصحابه ثم تجمعوا وحملوا ثانية على أصحاب أبي مسلم فأزالوا صفهم وجالوا جولةً فقيل لأبي مسلم‏:‏ لو حولت دابتك إلى هذا التل ليراك الناس فيجعوا فإنهم قد انهزموا‏.‏

فقال‏:‏ إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال‏.‏

وأمر مناديًا فنادى‏:‏ يا أهل خراسان ارجعوا فإن العافية لمن اتقى‏.‏

فتراجع الناس‏.‏

وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال‏:‏ من كان ينوي أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع وكان قد عمل لأبي مسلم عريش كان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال فإن رأى خللًا في الجيش سده وأمر مقدم تلك الناحية بالاحتياط وبما يفعل فلا تزال رسله تختلف إليهم حتى ينصرف الناس بعضهم عن بعض‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا فمكر بهم أبو مسلم وأمر الحسن بن قحطبة أن يعبيء الميمنة أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة حماعة أصحابه وأشداءهم فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميممنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم وأمر أبو سملم أهل القلب أن يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحملوا عليهم فحطموهم وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم فانهزم أصحاب عبد الله فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي‏:‏ يا ابن سراقة ما ترى قال‏:‏ أرى أن تصبر وتقاتل حتى تموت فإن الفرار قبيح بمثلك وقد عبنته على مروان‏.‏

قال‏:‏ فإني أتي العاق‏.‏

قال‏:‏ فأنا معك‏.‏

فانهزموا وتركوا عسكرهم فحواه أبو سملم وكتب بذلك إلى المنصور فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا من العسكر فغضب أبو مسلم‏.‏

ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علي فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فأمنه المنصور وقيل‏:‏ بل أقام عبد الصمد بن علي بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مرار العجلي في خيول أرسلها المنصور فأخذه فبعث به إلى المنصور موثقًا مع أبي الخصيب فأطلقه وأما عبد الله بن علي فأتى أخاه سليمان بن علي بالبصرة فأقام عنده زمانًا متواريًا‏.‏

ثم إن أبا مسلم آمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم‏.‏

  ذكر قتل أبي مسلم الخراساني

وفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني قتله المنصور‏.‏وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج على ما تقدم وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان‏:‏ إن أبا مسلم كتب يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد أن يسألني أن أوليه الموسم فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك‏.‏

فكتب المنصور إلى أخيه السفاح بستأذنه في الحج فأذن له فقدم الأنبار فقال أبو مسلم‏:‏ أما وجد أبو جعفر عامًا يحج فيه غير هذا وحقدها عليه وحجا معًا فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ويصلح الآبار والطريق وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون‏:‏ هذا المكذوب عليه‏.‏فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال‏:‏ أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة‏!‏ فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر فأتاه خبر وفاة السفاح فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع‏.‏

فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتابًا غليظًا فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة‏.‏

وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى ابن موسى إلى أن يبايع له فأتى عيسى وقدم أبو جعفر وخلع عبد الله بن علي فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله كما تقدم مكانًا مع الحسن بن قحطبة فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور‏:‏ إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال‏:‏ نحن لأي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي إلا أنا نرجو واحدة نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله وقد قتل منهم من قتل‏.‏

وكان قتل منهم سبعة عشرألفًا‏.‏

فلما انهزم عبد الله وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخطيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال فأراد أبو مسلم قتله فتكلم فيه فخلى سبيله وقال‏:‏ أنا أمين على الدماء خائن في الأموال‏.‏

وشتم المنصور فرجع أبو الخطيب إلا المنصور فأخبره فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان فكتب إليه‏:‏ إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين فإن أحب لقاءك أتيته من قريب‏.‏

فلما أتاه الكتاب غضب وقال‏:‏ يوليني الشام ومصر وخراسان لي‏!‏ فكتب الرسول إلى المنصور بذلك‏.‏

وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعًا على الخلاف وخرج عن وجهه يريد خراسان‏.‏

فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إله فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب‏:‏ إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدوا إلا أمكنه الله منه وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف مايكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون عن قربك حريصون على الوفاء لك ما وفيت حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها

السلامة فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نق 2 ضت ما أبرمت من عهدك ضنًا بنفسي‏.‏

فلما وصل الكاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسمل‏:‏ قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة فلم سويت نفسك بهم فأنت في طاعتك وما صحتك واضلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به ليس مع الشرطة التي أوجبت منك سمعًا ولا طاعة وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك‏.‏

وقيل‏:‏ بل كتب إليه أبو مسمل‏:‏ أما بعد فإني اتخذت رجلًا إمامًا ودليلًا على ما افترض الله على خلقه وكان في محله العلم نازلًا وفي قرابته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريبًا فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعًا في قليل قد نعاه الله إلى خلقه فكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع الرحمة ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العشرة ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم ثم استنقذنب الله بالتوبة فإن يعف عني فقدمًا وخرج أبو مسلم مراغمًا مشاقًا وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وأخذ أبو مسلم طريق حلوان فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم‏:‏ اكتبوا إلى أبي مسلم‏.‏

فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه وسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور‏.‏

وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروذي وقال له‏:‏ كلم أبا مسمل بألين ما تكلم به أحدًا منه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب فإن أبي أن يرجع فقل له‏:‏ يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس وإني بريء من محمد إن مضيت مشاقًا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي ولو خضت البحر لخضته ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك ولا تقولن هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه خير‏.‏

فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان فدفع إليه الكتاب وقال له‏:‏ إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه منك حسدًا وبغًا يريدون إزالة النعمة وتغييرها فلا تفسد ما كان منك‏.‏

وكلمه وقال‏:‏ يا أبا مسلم إنك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من ديناك فلا تحبط أجرك ولا فقال له أبو مسلم‏:‏ متى كنت تكلمني بهذا الكلام فقال‏:‏ إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بني العباس وأمرتنا من خالف ذلك فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة فجمعنا الله على طاعتهم وألف ما بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم ولم نلق منهم رجلًا إلا بما قذف الله في قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة وطاعة خالصة أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا وتفرق كلمتنا زقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وغن خالفتكم فاقتلوني‏!‏ فأقبل أبو مسلم على أبي نصر مالك بن الهيثم فقال‏:‏ أما تسمع ما يقول لي هذا ما كان بكلامه يا مالك‏!‏ قال‏:‏ لا تسمع قوله ولا يهولنك هذا منه فلعمري ما هذا كلامه ولما بعد هذا أشد منه فامض لأمرك ولا ترجع فوالله لئن أتيته ليقتلنك ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدًا‏.‏

فقال‏:‏ قوموا فنهضوا فأرسل أبو مسلم إلى نيزك فعرض عليه الكتب وما قالوا فقال‏:‏ ما أرى أن تأتيه وأرى أن تأتي الري فتقيم بها فيصير ما بين خراسان والري لك وهم جندك لا يخالفك أحد فإن استقام لك استقمت له وإن أبى كنت في جنك وكانت خراسان وراءك ورأيت رأيك‏.‏

فدعا أبا حميد فقال‏:‏ ارجع إلى صاحبك فيس من رأيي أن آتيه‏.‏

قال‏:‏ قد عزمت على خلافه قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ لا تفعل‏!‏ قال‏:‏ لا أعود إليه أبدًا‏.‏

فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر فوجم طويلًا ثم قال‏:‏ قم‏.‏

فكسره ذلك القول ورعبه‏.‏

وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا سملم‏:‏ إن لك إمرة خراسان ما بقيت‏.‏

فكتب أبو داود إلى أبي مسلم‏:‏ إنا لم نخرج لمكعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه‏.‏

فوافاه كتابه على تلك الحال فزاده رعبًا وهمًا فأرسل إلى أبي حميد فقال له‏:‏ إني كنت عازمًا على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه فإنه ممن أثق به‏.‏

فوجهه فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب وقال له المنصور‏:‏ اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان وأجازه‏.‏

فرج أبو إسحاق وقال لأبي مسلم‏:‏ ما أنكرت شيئًا رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم‏.‏

وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه فأجمع على ذلك‏.‏

فقال له نيزك‏:‏ قد أحمعت على الرجوع قال‏:‏ نعم وتمثل‏:‏ ما للرجال مع القضاء محالة ذهب القضاء بحيلة الأقوام

قال‏:‏ إذا عزمت على هذا فخار الله لك‏.‏

احفظ عني واحدةً إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت فإن الناس لا يخالفونك‏.‏

وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه وسار نحوه واستخلف أبا نصر على عسكره وقال له‏:‏ أقم حتى يأتيك كتابي فغن أتاك مختومًا بنصف خاتم فأنا كتبته وإن أتاك بالخاتم كله فم أختمه‏.‏

وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان‏.‏

ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره فقرأه وقال له المنصور‏:‏ والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه‏.‏

فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه فدعا سلمة بن سعيد بن جابر وقال له‏:‏ هل عندك شكر فقال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتمًا - وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر - وتجعل له النصف قال‏:‏ نعم‏.‏

قال له‏:‏ إن كسكركانت عام أول كذا وكذا ومنها العام أصعاف ذلك فإن دفعتهاإليك بما كانت أو بالأمانة أصبت ما يضيق به ذرعًا‏.‏

قال‏:‏ كيف لي بهذا المال قال له أبو أيوب‏:‏ تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه قال‏:‏ فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه فاستأذن له أبو أيوب في ذلك فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفسه وكان قبل ذلك كئيًا حزينًا ولم يزل مسرورًا حتى قدم‏.‏فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه فتلقاه بنو هاشم والناس ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده وأمره أن ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام فانصرف‏.‏

فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعةً من الحرس منهم‏:‏ شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه وتركهم خلف الرواق‏.‏

وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى فدخل على المنصور فقال له المنصور‏:‏ أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي‏.‏

قال‏:‏ هذا أحدهما‏.‏

قال أرينيه‏.‏

فانتضاه وناوله إياه فوضعه المنصور تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه وقال له‏:‏ أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات أردت أن تعلمنا الدين قال‏:‏ ظننت أخذه لا يحل فلما أتاني كتابه علمت أن وأهل بيته معدن العلم‏.‏

قال‏:‏ فأخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة‏.‏

قال‏:‏ كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق‏.‏

قال‏:‏ فقولك لمن أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة حين أتاك موت أبي العباس إلى أن تقدم فنرى رأينا ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي‏!‏ قال‏:‏ منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف‏.‏

قالك فجارية عبد الله أردت أن تتخذها قال‏:‏ لا ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها‏.‏

قال‏:‏ فمراغمتك وخروجك إلى خراسان قال‏:‏ خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري فأذهب ما في نفسك‏.‏

قال‏:‏ فالمال الذي جمعته بخراسان قال‏:‏ أنفقه بالجند تقويةً لهم واستصلاحًا‏.‏

قال‏:‏ ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبًا‏.‏

ثم قال‏:‏ وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد فتياننا قبل أن يدخلك في هذا الأمر قال‏:‏ أراد الخلاف وعصاني فقتلته‏.‏

فلما طال عتاب المنصور قال‏:‏ لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني‏.‏

قال‏:‏ يابن الخبيثة‏!‏ والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت إنما عملت في دولتنا ويريحنا فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلًا‏.‏

فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه فقال له المنصور‏:‏ ما رايت كاليوم‏!‏ والله ما زدتني إلا غضبًا‏!‏ قال أبو مسلم‏:‏ دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى‏.‏

فغضب المنصور وشتمه وصفق بيده على الأخرى فخرج عليه الحرس فضربه عثمان بن نهبك فقطع حمائل سيفه فقال‏:‏ استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين‏!‏ فقال‏:‏ لا أبقاني الله إذًا أعدوا أعدى لي منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو فقال المنصور‏:‏ يا بن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك‏!‏ فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه‏.‏

فقال المنصور‏:‏ زعمت أن الدين لا يقتضى فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كأسًا كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبرًا‏.‏

فلما تقل أبو مسلم دخل أبو لجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلًا فقال‏:‏ ألا أراد الناس قال‏:‏ بلى فمر بمتاع يحمل إلى رواق آخر‏.‏

وخرج أبو الجهم فقال‏:‏ انصرفوا فإن الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين‏.‏

ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقًا فانصرفوا وأمر لهم المنصور بالجوائز فأعطى أبا إسحاق مائة ألف‏.‏

ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم فقال‏:‏ قد كان هاهنا‏.‏

فقال عيسى‏:‏ عرفت نصيحته وطاعته وري الإمام إبراهيم كان فيه‏.‏

فقال‏:‏ يا أحمق والله ما أعلم في الأرض عدوًا أعدى لك منه‏!‏ ها هوذا في البساط‏.‏

فقال عيسى‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان لعيسى فيه رأي‏.‏

فقال له المنصور‏:‏ خلع الله قلبك‏!‏ وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة فدخل عليه فقال‏:‏ ما تقول في أمر أبي مسلم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل‏.‏

فقال له المنصور‏:‏ وفقك الله‏!‏ فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولًا قال‏:‏ يا أمير المؤمنين عد من هذا اليوم لخلافتك‏.‏

ثم دعا المنصور بأبي إسحاق فلما دخل عليه قال له‏:‏ أنت المانع عدو الله على ما أجمع عليه‏!‏ وقد كان بلغه أنه أشار عليه بإتيان خراسان قال‏:‏ فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا خوفًا من أبي مسلم فقال له المنصور‏:‏ تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق وأمر بإخراجه‏.‏

فلما رآه أبو إسحاق خر ساجدًا لله فأطال ورفع رأسه وهو يقول‏:‏ الحمد لله الذي آمنني بك اليوم‏!‏ والله أمنته يومًا واحدًا وما جئته يومًا قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت‏.‏

ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها كتان حدد وقد تحنط‏.‏

فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه وقال له‏:‏ استقبل طاعة خليفتك وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا‏.‏

ثم قال له‏:‏ فرق عني هذه الجماعة‏.‏

ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده وأني قدم وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم فلما رأى الخاتم تامًا علم أن أبا مسلم لم يكتب فقال‏:‏ فعلتموها‏!‏ وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان‏.‏

فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور وكتب إلى زهير بن التركي وهو على همذان‏:‏ إن مر بك أبو نصر فاحبسه‏.‏

فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان فقال له زهير‏:‏ قد صنعت لك طعامًا فلو أكرمتني بدخول منزلي‏.‏

فحضر عنده فأخذه زهير فحبسه‏.‏

وكتب أبو جعفر إلى زهير كتابًا يأمره بقتل أبي نصر وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور فخلى زهير سبيله لهواه فيه فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر فقال‏:‏ جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله‏.‏

وقدم أبو نصر على المنصور فقال له‏:‏ أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان قال‏:‏ نعم كانت له عندي أيادٍ فنصحت له وإن اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت‏.‏

فعفا عنه‏.‏

فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر وقال‏:‏ أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وأنا حي‏.‏

فسأل عنه المنصور فأخبر به فعلم أنه قد نصح له‏.‏

وقيل‏:‏ إن زهيرًا أبا نصر إلى المنصور مقيدًا فمن عليه واستعمله على الموصل‏.‏

ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال‏:‏ أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق وإن أبا مسلم أحسن مبتدًا وأساء معقبًا وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنفنا في إمهالنا وما ال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه فحكمنا فيه حكمه لنما في غيره ممن شق العصا ولم يمنعنا الحق من إمضاء الحق فيه وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني ابن المنذر - فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد ثم نزل‏.‏

وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة وأبي الزبير المكي وثابت الناتي ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس والسدير وروى عنه إبراهيم ابن ميمون الصائغ وعبد الله بن المبارك وغيرهما‏.‏

خطب يومًا فقام إليه رجل فقال‏:‏ ما هذا السواد الذي أرى عليك فقال‏:‏ حدثني أبو البير عن جبابر بن عبد الله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة

قيل لعبد الله بن المبارك‏:‏ أبو مسلم كان خيرًا أو الحجاج قال‏:‏ لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد ولكن الحجاج كان شرًا منه‏.‏

وكان أبو مسلم نازكًا شجاعًا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة وقيل له‏:‏ بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء فقال‏:‏ ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي ثم قال‏:‏ قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا من رقدةٍ لم ينمها قبلهم أحد طفقت أسعى عليهم في ديارهم والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا ومن رعى غنمًا في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسد وقيل‏:‏ إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار بإكافٍ وليس معه أدمي فقصد في بعض الليالي دارًا لفاذوسيان فدق عليه الباب ففزع أصحابه وخرجوا إليه فقال لهم‏:‏ قولوا للدهقان إن أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة‏.‏

فقالوا للدهقان ذلك فقال الدهقان‏:‏ في أي زي هو وأي عدة فأخبروه أنه وحده في أدون زي فسكت ساعةً ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال‏:‏ يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت وإن عرضت حاجة أخرى فلما ملك له بعض أقاربه‏:‏ إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي‏.‏

فقال أبو مسلم‏:‏ له عندنا يد‏.‏

فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان فقيل له‏:‏ لا تقبلها واطلب منه الأموال‏.‏

فقال‏:‏ له عندي يد‏.‏

ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله‏.‏

وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة‏.‏

وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان وكتب إليه بعهده‏.‏